مجلس الأمة
نسخة للطباعة

الحسين بن طلال
خطاب العرش
في
افتتاح الدورة العادية الثالثة
لمجلس الأمة الاردني الثاني عشر



يوم السبت
الواقع في 10 رجب 1416 هجرية
الموافق 2 كانون الأول 1995 ميلادية

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على النبي العربي الهاشمي الأمين

وعلى آله وصحبه أجمعين

حضرات الأعيان، حضرات النواب،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

باسم الله وعلى بركته تعالى أفتتح الدورة الثالثة لمجلس الأمة الاردني الثاني عشر، وانه لمما يبعث في النفس الرضى ان يلتئم مجلسكم الكريم. والاردن يواصل مسيرته على طريق السلام والتنمية بخطى واثقة. لقد كان هذا الحمى العربي العزيز، كما اراده الاجداد والآباء منطلقا للنهضة العربية ووريثا وفيا لمباديء ثورتها الكبرى ورسالتها النبيلة، من اجل التحرر والوحدة والحياة الفضلى لأبناء الأمة جميعا. وقد كان نضال الاردنيين بقيادتهم الهاشمية نموذجا للعمل المخلص الدؤوب الذي لا غاية له الا رضى الله والحفاظ على مصلحة هذا الوطن والدفاع عن قضايا الأمة العربية، حتى غدا الاردن بحق موئلا لأحرار الامة وشرفائها، الذين كانوا وما زالوا، يفيئون اليه كلما داهمتهم الخطوب، او تقطعت بهم سبل الحياة الحرة الآمنة الكريمة.

ومن هذا المنطلق،فقد احتضن الاردن الاهل كلهم، مهاجرين وانصارا أسرة واحدة متحابة متماسكة، في وحدة وطنية راسخة، صمدت في وجه كل العواصف والأنواء، وسيظل بعون الله على عهد أمته به، يرفض العزلة القطرية والانغلاق الاقليمي، ويعتز بهويته الوطنية وانتمائه العربي، وسيظل ايضا سدا منيعا في وجه كل محاولات الاختراق والتطرف بكل ما وهبه الله من قوة، لوضع حد لأي انحراف عن هذا السبيل القويم، وسيظل شعارنا على الدوام: كلنا اردنيون، وكلنا للاردن والأمة العربية.

حضرات الأعيان، حضرات النواب،

لقد كانت مواقف الاردن وستبقى مع أمته، فقد شاركها نضالها في سبيل التحرر من الاستعمار والتبعية، وكان المبادر للنهوض بواجبه القومي، في كل الأوقات، دفاعا عن شرف الأمة وقضاياها المصيرية، متجاوزا في ذلك مصالحه الذاتية، متحملا في سبيل ذلك ما يفوق طاقاته وامكاناته. وعندما كان العمل العسكري السبيل الوحيد المتاح لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، كان الاردن في طليعة المجاهدين السباقين الى دفع الثمن الغالي من دم شهدائه وقوت أبنائه، ولقد كان لقواته المسلحة الباسلة من المواقف البطولية في كل ميدان، ما لا ينكره إلا حاقد أو مكابر، وما سيبقى خالدا في ذاكرة الوطن والأجيال في المستقبل، مبعث اعتزاز وفخار. كما كان للاردنيين الدور الفاعل الذي أسهم في التنمية العربية وبناء العديد من أقطار الأمة، التي ما تزال تذكر لهم جهودهم بالتقدير والعرفان، وما يزال الاردنيون رافد الأمة الذي لا يتردد في التقدم لنصرتها في كل خطب أو معركة أو بناء.

وعندما أصبح التفاوض سبيلا لاستعادة الحق المغتصب، وقف الاردن الى جانب اخوانه، داعياً للسلام العادل والشامل والدائم الذي يعيد الحقوق لأهلها، وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية، واقامة دولته المستقلة على أرض وطنه، وقد وفرنا لاخواننا الفلسطينيين المظلة التي أدت بعد حين الى قبولهم طرفا مفاوضا رئيسيا مستقلا. وقد اختار اخواننا الوصول الى حقوقهم بالتفاوض المباشر. وتوصلوا الى اتفاق مع الجانب الاسرائيلي، تتوالى خطواته بجدية، وتتراءى على المدى القريب صورة الكيان الفلسطيني المستقل الذي نأمل أن يأخذ دوره المأمول على الساحة العربية، وسنبقى سنداً لاخواننا وعونا لهم الى حين الوصول الى حقوقهم الكاملة. كما بادر الاردن، بعد ذلك، الى التفاوض على حقوقه في أرضه ومياهه، وقد توجت جهوده بالتوصل الى معاهدة سلام، أقرها مجلسكم الكريم بأسلوب ديمقراطي مشرف، هذه المعاهدة التي أعادت حقوقنا كاملة غير منقوصة في أراضينا ومياهنا.

لقد تجاوزنا، أيها الاخوة، مرحلة صنع السلام، وغدا من حقنا، بل من واجبنا، دخول مرحلة بناء السلام، حتى ينعم شعبنا بثمار نضاله الطويل وجهوده المضنية، ويأخذ دوره على الساحة العربية والدولية، آمنا مطمئنا. ولما كان لمعركة السلام استحقاقاتها، فإن حكومتي تنهض بمسؤولية هذه المرحلة بجدية وثقة تتيح لنا الاستفادة القصوى من التنمية الشاملة التي ستشهدها المنطقة.

إننا ونحن نعمل من أجل تنفيذ معاهدة السلام مع اسرائيل، لا يمكن أن نقبل تجاوز دورنا الطليعي في اقامة علاقات عربية نقية، وتوحيد الصف العربي في مواجهة تحديات مرحلة تتميز بالتكتلات العملاقة، لذا فإن حكومتي قد عملت وتعمل على تجاوز مرحلة الجفوة والتباعد مع بعض الدول الشقيقة، واعادة اللحمة الى العمل العربي، بعيدا عن المواقف المسبقة التي تجاوزتها الاحداث والمتغيرات الاقليمية والدولية. وسنستمر في العمل لرفع الحصار عن الشعب العراقي الذي ما توانى يوما عن أداء واجبه نحو أمته، وكانت له في سبيل الدفاع عنها تضحيات جسام، ونحن نؤمن أن من حقه أن يتمتع بالحياة الحرة الكريمة في اطار من الحرية والديمقراطية والعدالة.

حضرات الأعيان، حضرات النواب،

اننا عازمون كل العزم على وضع الاردن على خريطة العالم الاقتصادية، مستفيدين من موقعه المتميز، ومن عناصر الأمن والاستقرار فيه، ومن مسيرته التنموية في اطار من الديمقراطية والاعتدال. وقد جاء مؤتمر قمة عمان الاقتصادية تتويجا لجهودنا في هذا المجال، ونتيجة طبيعية لمرحلة السلام، وقد استطاع الاردن بجهود المخلصين من أبنائه في الأجهزة الرسمية والقطاع الخاص، الذين عملوا بروح الفريق الواحد، أن يبرز انجازاته الحضارية في الاعداد والتنظيم وطرح المشاريع المجدية، وقد شهد له الجميع بالنجاح المتميز، وأملنا كبير في أن يلمس شعبنا الكريم ثمار هذه الجهود ونتائج هذا العمل خلال السنوات القليلة القادمة، وذلك بتوفير المزيد من الخدمات الأساسية، وقيام العديد من الاستثمارات، وتوفير فرص العمل العديدة، وتطوير الاقتصاد الوطني بما يكفل تعزيز القدرة الذاتية لهذا الوطن العزيز، وتوفير حاجات المواطن، وتحقيق تطلعاته الى غد أفضل. وقد بدأت حكومتي بالعمل على تعزيز بنيان الاقتصاد الوطني من خلال صيغة مثلى للمشاركة مع اوروبا، والانضمام الى المنظمة العالمية للتجارة.

لقد برزت خلال هذا العام مؤشرات الانتعاش الاقتصادي، ولقد كان لمجلسكم الكريم الدور البارز في هذا المجال، بانجاز رزمة مشاريع القوانين الاقتصادية، التي توفرمناخا مناسبا وبيئة جيدة للاستثمار المحلي والعربي والدولي. كما ازدادت نفقات الحكومة الرأسمالية بنسبة بلغت حوالي 20%، وزادت الصادرات الوطنية بنسبة 26% ، وزاد الناتج المحلي الحقيقي بنسبة بلغت 6%، وتحقق للوطن مستوى جيد من الاستقرار المالي والنقدي الذي أدى الى الحفاظ على سعرصرف الدينار الاردني، وانخفض حجم المديونية من خلال شطب الديون او شرائها او اعادة جدولتها، وسنبقى نعمل بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة والمؤسسات الدولية، لتخفيض أعباء هذه المديونية. وستستمر حكومتي باتخاذ الاجراءات التي تحد من الروتين، وتتميز بالبساطة والشفافية بهدف تفعيل الدور الريادي للقطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية.

لقد أصبحت خدمات البنية الاساسية تنتشر على كامل رقعة الوطن، وتعمل حكومتي على توسيع تلك الخدمات مع ضمان عدالة التوزيع، وايلاء عناية خاصة للمناطق النائية والمناطق الواعدة برفد الاقتصاد الوطني بعناصر القوة والمنعة. كما تعمل حكومتي على مأسسة الادارة العامة وتبسيط اجراءاتها وجعلها قريبة من المواطن، حتى يتمكن من الحصول على حاجاته بسهولة ويسر وعدالة ونجاعة.

حضرات الأعيان، حضرات النواب،

ان العملية التربوية هي أساس التنمية وقاعدة التقدم بالعلم والتكنولوجيا، ولذا فان حكومتي مستمرة في تنفيذ برنامج التطوير التربوي، بما يكفل اعداد الأجيال لمواجهة حاجات التنمية ومتطلبات القرن الحادي والعشرين، وذلك بتعزيز الثروة المعرفية وتطوير الأساليب التربوية، وترسيخ مفاهيم المشاركة والتعاون والديمقراطية. وستولي حكومتي عناية خاصة للشباب، من خلال ايجاد تنظيم وطني شبابي يفجر طاقاتهم لخدمة بلدهم ووطنهم، مع تعزيز التوجهات الحديثة عبر الاعلام الواعي الملتزم والتوجيه العقلاني المنفتح.

ونحن ندرك أن الاعلام والصحافة هما صورة الوطن أمام المواطن والعالم، ولذا فاننا سنعمل على تعميق دور كل منهما في اطار من الحرية المسؤولة، بعيدا عن الغوغائية وانكار الانجاز واغتيال الشخصية وتدمير السمعة أو الاختراق. وستبقى منابرنا ملتزمة بعقيدتنا وثوابت أمتنا، تدعو الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بمنأى عن التعصب أو الانغلاق، أو اتخاذ الدين وسيلة لتحقيق غايات ذاتية أو حزبية أو فئوية صغيرة. كما ستظل الحركة الثقافية موضع رعاية لتعزيز حرية التعبير، ودعم الكتّاب والمبدعين، واقامة المزيد من المراكز الثقافية.

ان حكومتي معنية بتوفير الأمن الشامل للوطن والمواطن، الأمن الذي يضمن للمواطن الاطمئنان على نفسه وعرضه وماله، ويمتد ليكفل الأمن الاجتماعي من خلال توفير فرص العمل ورعاية الأسر المحتاجة، وتوفير مشاريع العون الاجتماعي، واطلاق طاقات الخير لدى شعبنا الطيب، وضمان التكافل الاجتماعي وتوسيع مظلة التأمينات الصحية. كما يمتد ليشمل الأمن الغذائي، من خلال تطوير البرامج الزراعية، ودعم المزارع المنتج، وترشيد الانتاج والتسويق والتصنيع الزراعي، وتوفير مخزون غذائي كاف، واستمرار وصول الدعم الى مستحقيه بأسلوب مناسب.

حضرات الأعيان، حضرات النواب،

لقد تجذرت مسيرتنا الديمقراطية، وأصبحت نموذجا متميزا يغبطنا عليه الصديق، ويحسدنا عليه الشانئ، وسنستمر نرعى هذه المسيرة حتى تؤتي ثمارها كلها، لخير هذا الشعب، وذلك في مناخ من الحرية والتعددية في الفكر والرأي والتنظيم، وفي اطار من الانتماء لهذا الوطن، والالتزام بمصلحته العليا. إن الديمقراطية لا تعني الفوضى والتجاوز على نظام هذا الوطن وثوابته، أو المس بالوحدة الوطنية والقاء السواد على كل انجاز واغتيال سمعة الوطن والمواطن.

وسنبقى نرصد هذه الظواهر التي تحارب الديمقراطية بسيفها، وسنتصدى لها بالاسلوب المناسب، وفق احكام الدستور والقانون، ونحن وإياكم مسؤولون جميعا عن وضع حد لهذه الظواهر الغريبة على مجتمعنا البعيدة عن قيم أمتنا، اننا نعي بوضوح أن الاستقرار هو الأساس السليم لتحقيق كل تقدم ونمو، والذي بدونه يسود القلق والتخبط والسير نحو المجهول، وأن هذه المرحلة الهامة والواعدة ان شاء الله، تتطلب مفاهيم ومعايير جديدة، تستند الى الكفاءة والعطاء والانضباط، بالاضافة الى الايمان بهذا البلد واعطائه حقه من الوفاء والعرفان والانتماء، وهذه الامور تتناقض بصورة كلية مع ما نشاهده من محاولات النخر والتخريب من جهة، ومحاولات جلد الذات من جهة اخرى.